sourati

رحلتة إلى فـاس

رحلتة إلى فـاس


في الفترة التي كان سيدي أحمد بن الشيخ يمر فيها بمرحلة الإمتحان من طرف أخيه الأكبر سيدي محمد بن الشيخ أمره هذا الأخير من جملة ما أمر، أن يقوم على غير عادة لوحده برحلة خاصة الى مدينة فاس حيث أحضر له 12 جملا زائدا على العدد المألوف الذي كان قد إعتاد أن يسافر به لشراء القمح تحت إمارة إبن عمه سيدي حكوم الذي يكبره سنا ويفوقه تجربة . وكان هذا أول سفر سيقوم به لوحده.

كلف سيدي محمد أخاه سيدي أحمد بن الشيخ أن يشتري زيادة على كيل القمح والشعير المألوف حمولة الإثنى عشر جملا الأخرى من السلع و المؤن المتنوعة من مدينة فـاس . وقد زوده بالدراهم اللازمة. وبعدما إكتال سيدي أحمد بن الشيخ من الشراردة ما كان كافيا من الحبوب واصل سيره إلى مدينة فاس . فأمضى بها اليوم الأول كاملا يجوب دكاكين سلع التي كان يبتغي يتأمل أصحابها دون أن يشتري أو يكلم أحدا. وقد لفت نظره صاحب دكان لاحظه طوال يومه بين تلاوة القرآن وتصفح الكتب كما لاحظه يتسلم الدراهم دون أن يراجع حسابها .. بل ولا يراقب مساعده الشيء الذي جعله يطمئن إليه .




وفي الصباح الموالي جاءه مباشرة . وبعدما بادله التحية قال له : " يا سيدي إني أريد أن أشتري منك شيئا من السلعة " . فقال له إذهب إلى المساعد وخذ ما تريد. ثم واصل تصفح كتابه . لكن سيدي أحمد بقي واقفا. فلما إنتبه له صاحب الدكان سأله من جديد ماذا يريد. فأجابه بمثل نفس الجواب : " إني أريد أن أشتري منك شيئا من السلعة " فأجابه بنفس الجواب السابق :

" قلت لك إذهب إلى المساعد وخد ما تريد "

فقال له سيدي أحمد : " أني أريدك أن تعاملني بنفسك "

إنتبه الرجل من هذا الرد وتأمل زبونه فرآه شابا طويلا نحيفا يبدو غريبا يتكلم باللهجة الشرقية وعليه علامات التعب، يرتدي ثيابا رثة، فاستصغره. إلا أنه تواضع ولبى له الطلب قائلا : " طيب هات ما عندك إني رهن الإشارة " . فقال له سيدي أحمد بن شيخ : " أرجوك خذ ورقة وقلما وسجل ما أملي عليك "، وقد زاد هذا الطلب في إستصغاره . لكنه مع ذلك تناول القلم والورقة نزولا عند رغبة الزبون . وقد بدأ الإستصغار يمتزج بالإستغراب حينما بدأ الزبون المتواضع المظهر يملي عليه كميات كبيرة من السلع : سجل كذا قنطارا من القهوة وكذا قنطارا من الشمع وكذا قنطارا من الحنة وكذا قنطارا من كذا وكذا كذا قنطارا من كذا وكذا لفائف من الكتان من نوع كذا ومن نوع كذا " والقائمة طويلة ....

كان صاحب المتجر يسود القائمة وهو على غير ثقة مما يسمع . لأن ثمن مجموع السلعة يتطلب مبلغا كبيرا من المستبعد جدا ـ في تقديره ـ أن يكون بحوزة هذا الشخص البسيط . و مع ذلك فقد إستمر في تسويد اللائحة ولم يقاطع زبونه تأدبا . وعندما أتم الزبون سرد ما يريد و حدد صاحب المتجر الأثمنة كان المجموع مرتفعا بالنظر إلى جودة وكمية السلع، فقال له هل معك كل هذا المبلغ يا رجل ؟ فأجابه سيدي أحمد بن الشيخ قائلا :

" نعم إن شاء الله يا سيدي " فسأله صاحب المتجر متعجبا . " سبحان الله ولكنك قلت لي أنك تريد شيئا فقط من السلعة " فأجبه سيدي أحمد بن الشيخ :

" يا سيدي قلت ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول : ( قل متاع الدنيا قليل ) " .

ولما سمع منه التاجر هذه الآية الكريمة تفاجأ لأنه كان يعتقده أميا، فقام من كرسيه وقبله من جديد تقبيل الإحترام والتقدير طالبا من السماح بعد أن تحقق أن لصاحبه شأنا وإن كانت تزدريه العين . و تمت الصفقة بين الرجلين بعد أن تطوع البائع بتخفيض الثمن بنسبة معتبرة تقديرا منه لما لمس في صاحبه من صفات فاضلة نادرة .
وعاد سيدي أحمد بقافلته محملة بمجموع ما كلف به من السلع . كما عاد بفائض مهم من الدراهم من جراء التخفيض الذي حصل عليه . وعندما وصل الدوار كان سيده غائبا . ولما دنا السيد من الدوار لاحظ عددا من الإبل نائخة قرب الخيمة وبقربها مجموعة عامرة من الخناشي . فبدأ يتساءل ما كل هذا . لعل أحمد قد جاء ومعه ضيوف . لكن لماذا أناخ الضيوف جمالهم بقرب الخيمة . وتوالت التساؤلات دون أن تجد لها تفسيرا، ولما وصل بدأ يتفقد الخناشي للتعرف على السلع ويتساءل في نفسه لمن كل هذه السلع يا ترى . وإزدادت حيرته أكثر لما بحث عن الضيوف فلم يجد، حينها أرسل إلى سيدي أحمد بن الشيخ . وبعدما حياه وإستفسره عن أحوال السفر سأله قائلا :

" هل جاء معك ضيوف ؟ " فأجاب : لا يا سيدي . ثم سأله ثانية :
" هل أرسل أحد معك سلعة ما " . فأجاب لا ياسيدي . فقال :
" ولمن كل هذه السلع ؟ فأجابه : إنها سلعتك يا سيدي . فقال :
" ومن أمرك بإحضار كل هذه السلع ؟ " فأجاب : نعم سيدي أنت الذي أمرتني بذلك . قال :
" وهل أمرتك بكل هذا العدد ؟ " فأجاب نعم يا سيدي . قال :
" هل صحيح أن كل هذه السلع فعلا لنا ؟ " . فأجاب نعم سيدي إنها كلها لك . قال له :
" ومن أعطاك ثمنها ؟ " فأجاب : أنت الذي أعطيتنيه . قال :
" وهل أعطيتك ثمن كل هذه السلع ؟ " . فأجاب :
نعم سيدي أعطيتني ثمنها كلها . وقد عدت لك منه بفائض مهم تنازل لك عنه صاحب المتجر ....

إندهش السيد إندهاشا كبيرا مما رأى . وبعدما أطرق رأسه هنيهة إستدار نحو أخيه وقال له بلهجة مليئة بالتعجب والإستغراب : " لتكن " على يقين يا أحمد أني لم أكلفك شخصيا بالسلع الزائدة على المعتاد خصوصا وأنك قد رحلت وحدك . ولو كنت مكلفك ما كنت لأكلفك بكل هذا العدد . ثم أني لم أكن أملك من الدراهم حتى ما يغطي سلعة واحدة " فكيف لي بهذه السلع كلها ! . ولتكن على يقين أني لم أكن إطلاقا على علم بهذه الصفقة ولا توفر لدي ثمنها . فكن على يقين يا أحمد أن الله سبحانه قد أنطق لك ملكا على لساني ليكلفك بهذه المهمة الشاقة وأحضر لك الدراهم اللازمة . كما سخره ليكون لك عونا طوال هذه الرحلة . وما أرى ذلك إلا لخصوص مكانتك عنده " . كانت هذه إحدى الكرامات البارزة في مستهل حياة هذا الشيخ الشاب وهو لايزال في طور الإمتحان . كرامة زادت السيد يقينا بنجابة التلميذ وعلو مكانته . وتحكي الروايات الموثوقة إن هذه الصفقة كانت جد مربحة لدرجة أنها سدت جميع حاجيات الدوار من تلك المواد لمدة ثلاث سنوات متتالية في الوقت الذي كان يعز وجودها في الأسواق . إن هذه الكرامة يمكن تقدير قيمتها بالنظر إليها من الزوايا الآتية :

+ إن سيدي أحمد بن الشيخ الذي كان لا يزال حدثا تم تكليفه بما لم يسبق إن كلف به حتى ابن عمه سيدي حكوم صاحب التجربة الطويلة في هذا المضمار .
+ إن أخاه سيدي محمد بن الشيخ وإن كلفه في الظاهر قد جزم بأنه لم يكن على علم بذلك بتاتا . كما أكد بأنه لم يكن يملك الثمن الباهض الذي يغطي حمولة الإثني عشر جملا بكاملها .
+ إن سيدي أحمد بن الشيخ رغم كل ذلك قام بالمهمة أحسن قيام وحقق منها فائضا مهما .
+ ثم تكفي شهادة أخيه وأستاذه الذي لم يكن من دأبه في تلك الآونة أن يفتح له المجال، تكفي شهادته بقوله أن الله قد جند له ملكا منذ لحظة التكليف حتى لحظة الرجوع . وما ذلك على الله بعزيز . لأنه سبحانه حينما يريد أن يكرم عبدا من عباده فانه يقوم بالفعل وينسبه له ويمكن التخمين أن هذه الكرامة قد وقعت في أواخر سنة الإمتحان حيث تكون أهم علامة حفزت السيد ليجيز تلميذه بعدها مباشرة .