sourati

حادثة الضاية

حادثة الضاية


كان سيدي الحاج الشيخ الإبن الأصغر المعروف لسيدي أحمد بن الشيخ قد أصيب في حالة مرضية شديدة في شكل جذب دامت عليه لمدة حوالي سنة بلغت به مدى لم يعود يطيق له صبرا . نقطة ولما إشتد عليه الحال ذات مرة إلى درجة فاقت حدود التحمل قرر أن يقذف بنفسه في بركة ماء تسمى ضاية النجوع معروفة بالظهرة كان الدوار على مشارفها. ونظرا لأهميتها الخاصة ولمراحل التشويق الرائعة التي توالت فيها آثرت أن أكتبها مباشرة على لسانه على غير عادة الكرامات الأخرى ...

فلنتركه يرويها لنا بنفسه مباشرة. فاليكموها سادتي القراء الكرام على وجه اليقين وعلى لسانه شخصيا. إذ يحكي مسترسلا:




" في يوم من الأيام لما إشتد علي المرض لدرجة لم أستطع لها تحملا ولم أطق لها صبرا فكرت في الخلاص . وكان من الحلول التي خطرت ببالي أن أنتحر لأرتاح . فقررت في هذا الصدد أن ألقي بنفسي في بركة الماء المسماة بضاية النجوع والتي كان الدوار على مقربة منها. وكان والدي سيدي أحمد من الشيخ رحمه الله في قيلولة بالجامع. وبما أن الفصل كان صيفا فقد رفعت أسترة الجامع ليدخله الهواء كما هو معلوم (مع الاشارة إلى الجامع كان خيمة من الهدم وهي حصائر من الوبر).

وكنت مع والدي في الجامع متظاهرا بالنوم . ولما ازمعت على تنفيذ خطتي بدأت أترقب والدي وأتحسس أنفاسه حتى تيقنت أنه إستغرق في النوم . فعمدت إلى الإنسلال من الفراش بكامل التأني، ثم خرجت من الجامع بكل تستر كي لا أوقظه فيسألني إلى أين أريد ، لأنه إن سألني فلا خيار لي إلا أن أصارحه حيث لم يكن من عادتي أن أراوغه البتة وليس من دأبي أن أكذب عليه من باب أولى. وقد إنصرفت ماشيا بالخلف حافيا لا يتعدى وقع خطاي دبيب النمل. وكنت أمشي إلى الوراء حتى أظل أراقبه في الفراش عله يستفيق . وكنت قد قررت أني بمجرد أن أراه يتحرك أغير إتجاه السير صوبه حتى لا ينكشف أمري . وكنت أتريث الخطى وأعيد التحقيق في كل خطوة إن كان لازال نائما لم يتململ . وكان ذلك حرصا مني على أن أنفذ فعلتي في كامل السرية حتى لا يشعر بي. وقد قطعت كل المسافة الفاصلة بين الجامع والضاية والتي كانت تقدر بحوالي 200 م دون أن تفارق عيناي فراشه رمشه عين. ولما بلغت لحظة الحسم أي جانب الضاية، قررت أن أنزع ثيابي لأرتمي عاريا. وكنت على يقين من نجاح مخططي. ولما أمسكت بثيابي لأخلعها وإستدرت نحو الضاية لأختار المكان العميق الذي أرتمي فيه فإذا بالمفاجأة الكبرى" لقد وجدت نفسي في غاية الذهول والإندهاش حينما وجدت والدي سيدي أحمد بن الشيخ الذي تركته خلفي نائما لم تبارحه عيناي في الفراش رمشه عين، لقد وجدته واقفا بيني وبين الضاية التي كنت أبتغي. فاختلجت من رؤيته وبدأت فرائسي ترتعد وفقدت الصواب وكدت أن يغمى علي. وكان مما زادني تأثيرا لما قال لي بلهجة الأب الحنون صاحب الصدر بنبرة ملؤها العطف والحنان والشفقة:

" يابني أتظن أنك قد صرت عندنا زهيدا إلى هذا المدى حتى نفرط فيك ونتركك تلقي بنفسك في الضاية ـ معاذ الله ـ إذهب فأنت حر منذ اليوم وسيكون هذا آخر أيام مرضك إن شاء الله تعالى".

لقد كانت هذه العبارة بالنسبة لي بلسما عجيبا. فما كدت أبرح مكاني حتى بدأت أشعر بالتغير يدب في أوصالي. لقد جاء الخلاص فعلا. ليس الخلاص الذي كنت أبتغي لنفسي تحت وطأة الألم، ولكنه الخلاص الذي شاء لي ربي، من الألم ومن كل ألوان الضغوط النفسية التي كانت تغمر خلجاتي أعاني منها بضراوة لا يعلمها إلا الله سبحانه.

حينها رجعت إلى الجامع خاضعا مستسلما ذاعنا حاني الرأس أمشي على استحياء من سوء ما صنعت، ولقد كان ذلك اليوم فعلا آخر أيام المرض، فقد بدأت أتماثل للشفاء بشكل ملحوظ، وما هي إلا أيام حتى عدت طبيعيا لم يعد مرضي إلا ذكريات سجلها التاريخ من فترات الصعار ونبرات الأنين ولوعة الاضطراب!!

وهكذا إنتهت الحكاية المثيرة التي رويتها لك عزيزي القارئ على لسان صاحبها زيادة في التشويق. وأقل ما يمكننا أن نستنج منها من عبر وأسرار ٬ ما يلي :

1 - قوة التأثير الذي كان منصبا والضغط الذي كان ممارسا على سيدي الحاج الشيخ للدرجة التي لا تطاق حتى آثر الإنتحار رغم تحريمه. ومن المعلوم بداهة أنه على قدر المشقة يكون العطاء. وما بلوغه أعلى درجات المشقة إلا ليتم له الحصول على كمال المحصول.

2 - كما تلمس العناية الخاصة التي كان يوليها سيدي أحمد بن الشيخ لابنه والتأثير الروحي الذي كان له عليه، حتى أنه كان ء كما يحكي شخصيا ء يكون طبيعيا كلما كان بحضوره ثم ما يلبث أن يعود إلى حالته المرضية بمجرد أن يبتعد عنه. وقد كان سيدي أحمد بن الشيخ، ككل شيوخ التربية وأرباب القلوب يمهل إبنه ويتريثه إلى حين بلوغه أقصى ما يمكن من الثمار.

3 - نلاحظ أيضا تصريف الأبدال الذي قام به سيدي أحمد بن الشيخ في هذه الواقعة ...

فهو من جانب كان على وجه اليقين نائما بالجامع على مرأى من إبنه، ثم كان موجودا في نفس الوقت مع إبنه بالضاية بمكان آخر. وتصرفات الأبدال هي التي قال فيها الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد في الياقوتة حين الكلام على مراتب الولاية:

" فأولها ولي ثم نقيبها نجيب     كذا الأبدال فازوا برتبــة "

وليس في ذلك من عجب ما دامت تصرفات الإبدال تحدث بمشيئة الله المطلقة. بل ان تلك التصرفات نفسه تعتبر دليلا على طلاقة هذه المشيئة.